يعتبر سوق العملات هو أكبر الأسواق المالية قاطبةً وأكثرها سيولة. برغم ذلك، قد يكون من الصعب على الشخص العادي فهم الغرض أو الوظيفة التي يقوم بها هذا السوق الضخم. يقوم سوق العملات بأدوار عديدة، وذلك على خلاف سوق الأسهم، والذي يركز بشكل رئيسي على تسهيل جمع الأموال للشركات الكبرى عبر طرح أسهمها أمام عدد كبير من المستثمرين. تشرح هذه المقالة أهمية سوق الفوركس والدور الهام الذي تلعبه ضمن الاقتصاد الوطني.
تتواجد سوق الفوركس بشكل رئيسي لتلبية احتياجات المصدرين والمستوردين والمسافرين من العملات الأجنبية. برغم ذلك، فإن سوق الفوركس لا تتشابه مع سوق الأسهم التي يوجهها المستثمرون بشكل رئيسي. بعبارة أخرى، يمثل المستثمرون جزء حيوي وضرورة لا غنى عنها لعمل سوق الأسهم. على العكس من ذلك، فإن المستثمر هو من يحتاج لتواجد سوق الفوركس للقيام باستثماراته الخارجية. بعبارة أخرى، يستطيع سوق العملات أن يعمل بشكل طبيعي حتى في غياب المستثمرين والمضاربين بالنظر إلى العدد الكبير من الوظائف الهامة التي يقوم بها داخل جسد الاقتصاد. سنحاول في السطور التالية سرد بعض هذه الوظائف الحيوية.
التجارة الدولية
يحتاج المصدرون إلى تحويل الإيرادات التي يحصلون عليها بالعملة الأجنبية من المشترين الخارجيين إلى عملتهم المحلية. وبالمثل، يحتاج المستوردين إلى تحويل عملتهم المحلية إلى دولارات أمريكية، على سبيل المثال، لشراء السلع من البلدان الخارجية. ولا ننسى أن الشركات الكبرى تحتاج إلى شراء الدولارات الأمريكية لتأسيس فروعها أو بناء مستودعاتها ومصانعها في مناطق أخرى من العالم. أيضاً فإن تحويل العملات يعد خطوة ضرورية لإكمال عمليات الدمج والاستحواذ. كل هذه الاحتياجات لا يمكن تلبيتها سوى من خلال سوق الفوركس.
تسوية الصكوك المالية
في كثير من الأحيان يتم إرسال المدفوعات في شكل صكوك أو أدوات مالية (شيكات، كمبيالات، خطابات اعتماد، تحويلات دولية، إلخ) من بلد إلى آخر. تتسم هذه النوعية من المعاملات بالتعقيد كما قد يشارك في إتمامها أكثر من بنكين، وهنا يأتي دور سوق الفوركس في تحديد أسعار الصرف المستخدمة في تحديد قيمة المبالغ التي سيتم إضافتها إلى حساب المستلم.
مثال آخر. قد تقوم احدى الدول بمنح قروض لبلد آخر لتمويل مشروعات التنمية، وفي هذه الحالة يتم فتح خطوط ائتمان لتسهيل عمل الشركات المنخرطة في هذه المشاريع. حتى هذه النوعية من المعاملات تتطلب استخدام أسعار الصرف السائدة في سوق الفوركس لمعالجتها.
وبالمثل، قد تستثمر دولة في أدوات الدين الصادرة من بلد آخر (مثل سندات الخزانة الأمريكية). وربما يأتي الاستثمار في أدوات الدين من شركة خاصة أو مستثمر من خلال شراء السندات التي تصدرها شركة في بلد آخر. عندما يحل موعد استحقاق أدوات الدين الأجنبية، فإن مبلغ السداد النهائي سيتم تحويله إلى العملة المحلية بحسب أسعار الصرف السائدة في السوق.
التحوط
عندما تتلقى إحدى شركات التصدير أمر من بلد آخر، ففي أغلب الأحوال سيأخذ تجهيز البضاعة بعض الوقت، وبالتالي لن يتم شحنها بشكل فوري. يقوم المشتري في هذه الحالة بفتح ما يطلق عليه ’اعتماد مستندي‘ والذي يشكل ضمانة بدفع قيمة البضاعة عند استلامها. وبحسب شروط العقد، قد يقوم المصدر بشحن المشتريات خلال فترة تتراوح عادةً بين 45 إلى 60 يوم. خلال هذه الفترة قد ترتفع قيمة العملة المحلية أو تنخفض مقابل الدولار الأمريكي، الأمر الذي يؤثر على المبلغ الفعلي الذي سيتلقاه بائع السلعة. قد يصل الأمر في بعض السيناريوهات السيئة إلى أن يتكبد المصدر خسارة بسبب أسعار الصرف. ولتجنب مثل هذه المواقف الحرجة، يقوم المصدر بتثبيت سعر الصرف عن طريق الدخول في عقد مع البنك الذي يتعامل معه يطلب فيه استخدام سوق الفوركس للتحوط مقابل تقلبات أسعار الصرف بهدف حماية حقوقه.
تأتي صفقات التحوط في سوق الفوركس أيضاً من خلال المستثمرين الذين يشترون أصول ذات مخاطرة خارج البلدان التي يقيمون بها. على سبيل المثال، عندما يتزايد التوتر السياسي بين بلدين (مثل ما حدث في فترات سابقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية)، يلجأ المستثمرون إلى شراء ما يطلق عليها عملات الملاذ الآمن مثل الين الياباني والفرنك السويسري. عدم توفر سوق الفوركس كان سيصعب كثيراً من قدرة المستثمرين على إجراء هذه النوعية من المعاملات خلال فترة زمنية معقولة.
السيطرة على التضخم
بشكل عام، تحتفظ البنوك المركزية التي تعمل في بلدان مستقرة بكميات ضخمة من العملات الأجنبية (اليورو، الدولار الأمريكي، الجنيه الاسترليني، الين الياباني، الفرنك السويسري، الرنمينبي الصيني) كجزء من احتياطياتها السيادية. تستخدم هذه الاحتياطيات في الحفاظ على استقرار الاقتصاد. على سبيل المثال، عندما يبدأ اقتصاد إحدى البلدان بمواجهة بعض المصاعب، يلجأ البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة، والذي يؤدي بدوره إلى تقليل جاذبية العملة المحلية للمستثمرين الأجانب. تلجأ البنوك المركزية أيضاً إلى التدخل في سوق الفوركس (عن طريق بيع العملة المحلية وشراء العملات الأجنبية)، إذا ما اقتضت الضرورة. الغرض من ذلك هو إبقاء العملة المحلية عند مستويات تنافسية. أيضاً فإن ارتفاع السيولة بالتوازي مع انخفاض أسعار الفائدة يشجع المستهلكين على زيادة إنفاقهم، وبالتالي دعم النمو الاقتصادي.
ولكن بمجرد أن تبدأ الضغوط التضخمية في التسارع، يقوم البنك المركزي برفع سعر الفائدة، الأمر الذي يؤدي بالتبعية إلى زيادة جاذبية العملة الوطنية في نظر المستثمرين الأجانب. وإذا اقتضت الضرورة، قد يتدخل البنك المركزي مرة أخرى في سوق العملات (شراء العملة المحلية وبيع العملات الأجنبية) لتقوية مركز عملته المحلية. سيؤدي انخفاض السيولة إلى تقليص شهية الأفراد والشركات تجاه الإنفاق، وبالتالي تجنب نمو الاقتصاد بمعدلات أقوى من المطلوب بما يسببه ذلك من مشاكل عديدة. بعبارة أخرى، يستطيع البنك المركزي استخدام سوق الفوركس في تقوية أو إضعاف العملة الوطنية، بحسب ما تقتضيه الظروف، وذلك بغرض ضمان سلاسة الوضع الاقتصادي.
لا توجد مبالغة في القول بأن الاقتصاد العالمي قد يتوقف في غياب سوق الفوركس، لأنه سيفتقد في هذه الحالة إلى آليات مناسبة لتحديد أسعار الصرف. وعلاوة على ذلك، فإن غياب سوق الفوركس سيؤدي إلى عمليات تلاعب ضخمة بأسعار الصرف والتي قد تلجأ إليها بعض البلدان بغرض جني مزايا تنافسية غير عادلة، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى اختلال كبير في توازن الاقتصاد العالمي.