$ £ ¥
¥ £ $

هل يمكن التلاعب بسوق الفوركس؟

يسود اعتقاد شائع في الأسواق المالية أن التلاعب بالأسعار لن يكون ممكناً طالما كان السوق يتمتع بسيولة عميقة. وعلى العكس من ذلك، يفترض البعض سهولة التلاعب بالأسعار في الأسواق شحيحة السيولة. وبناءً على هذا الزعم، فمن المستحيل عملياً التلاعب بسوق الفوركس بسبب ضخامة أحجام تداولاته والتي تصل إلى 7.5 تريليون دولار يومياً. لم تعد هذه الافتراضات تساوي الحبر الذي كتبت به بعد أن فرضت هيئات الرقابة الأمريكية والأوروبية غرامات بمليارات الدولارات على العديد من البنوك الكبرى (بنك أوف أمريكا، باركليز، سيتي جروب، إتش إس بي سي، جي بي مورغان، RBS وUBS AG) على خلفية تلاعبها بأسواق العملات خلال الفترة ما بين ديسمبر 2007 ويناير 2013. هذه التطورات دفعت المتداولين الأفراد للشعور بالقلق والتفكير في مدى إمكانية تعرض أسواق العملات للتلاعب؟ أيضاً سيثور تساؤل في أذهان هؤلاء حول مدى تأثرهم كمتداولين في حال حدوث تلاعب بالأسعار في سوق الفوركس؟ سنحاول في هذه المقالة الإجابة على هذه الأسئلة المحيرة.

اللاعبين الكبار في سوق الفوركس

تتجاوز قيمة التداولات اليومية في سوق الفوركس 5 تريليون دولار يومياً، وتستحوذ البنوك الكبرى على نصف هذه التعاملات تقريباً. وتساهم أكبر عشرة بنوك عالمية بنحو 80% من إجمالي قيمة التداولات في سوق العملات. على سبيل المثال، تصدر سيتي بنك في 2017 قائمة اللاعبين الكبار في سوق الفوركس ما بين البنوك (الانتربنك) من خلال الاستحواذ على حصة تصل إلى 10.7%. وتلاه في القائمة جي بي مورجان بحصة سوقية 10.3%. وبناءً على هذه الأرقام، فليس من المستغرب أن تصل قيمة تعاملات كلاً من سيتي وجي بي مورجان إلى 500 مليار دولار في اليوم. تعني هذه الحقيقة ببساطة أنه إذا قرر كلا البنكين فتح صفقات متعاكسة فإن صافي الحركة في أسواق الفوركس ستعتمد على مراكز التداول التي تتخذها باقي البنوك الكبرى. أما إذا تأمر هؤلاء اللاعبين الكبار وقرروا وضع أوامر تداول في نفس الاتجاه فإن هذا سيفتح الباب واسعاً أمام حدوث عمليات تلاعب ضخمة في السوق. هذا هو بالضبط ما حدث خلال الفترة ما بين عامي 2007 و2013.

تأخذ البنوك الكبرى من عملائها الكبار (وهم عادةً من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات) أوامر تداول على أساس أسعار العملات المثبتة أو ما يطلق عليها fix orders. وقبل الدخول في مزيد من التفاصيل، دعنا نشرح معنى تثبيت الأسعار أو fix في سوق العملات الأجنبية. يشير هذا المصطلح إلى سعر الصرف المرجعي الذي يستخدمه وكلاء الفوركس، والشركات متعددة الجنسيات، والبنوك المركزية في تقييم سلوك إحدى العملات. يساعد هذا السعر الاسترشادي الشركات الكبرى وباقي المشاركين في السوق على تقييم مخاطر الأعمال أو المحفظة الاستثمارية.

يتم تحديد الأسعار المثبتة استناداً إلى أسعار مرجعية يتم الإعلان عنها مرتين في اليوم. السعر الأول يحدده البنك المركزي الأوروبي كل يوم في الساعة 14:15 بتوقيت وسط أوروبا. أما السعر المرجعي الثاني، والذي يطلق عليه World Markets/Reuters fix، يتم إصداره كل يوم في الساعة 16:00 بالتوقيت العالمي. يم تجميد أسعار الصرف أثناء عملية استخلاص السعر المثبت. وحتى وقت قريب كان السعر المثبت يستند إلى صفقات العملات التي تجرى خلال فترة زمنية مدتها 30 ثانية قبل وبعد الوقت المحدد. ويستخدم سعر fix كسعر مرجعي لإتمام العديد من المعاملات التجارية حتى صدور السعر الجديد في اليوم التالي.

عندما يقوم البنك بتنفيذ صفقة أسفل أو أعلى السعر المثبت (مثل تنفيذ أوامر شراء أو بيع)، فإن الفارق بين السعر المثبت والسعر الذي يتم عنده تنفيذ الأمر يدخل إلى جيب البنك في شكل أرباح من عمليات التداول. تُظهر هذه الآلية أن هناك مصلحة للبنك في التلاعب بالأسعار المثبتة. تخيل لو أن البنك حاول دفع السعر للتحرك صعوداً أو هبوطاً قبل نصف ساعة من بدء عملية تثبيت الأسعار المرجعية. سيعطي ذلك انطباع خاطئ بين الشركات حول المستويات الفعلية للعرض والطلب في السوق. ويستطيع البنك الاستفادة من هذا الوضع عن طريق بيع العملات إلى العميل بسعر أعلى من السعر العادل ثم شراء نفس العملة لاحقاً من السوق عند سعر أقل.

ولتنفيذ هذه المؤامرة لجأ متداولي الفوركس في البنوك الكبرى إلى استخدام غرف الدردشة الخاصة وبعض الكلمات المشفرة مثل ("الجانب الأيسر" ، "الجانب الأيمن" ، وما إلى ذلك) للإشارة إلى اتجاه حركة العملة قبل وقت تثبيت الأسعار. وأطلق هؤلاء المتداولين على أنفسهم بعض المسميات الرمزية مثل "اللاعبون"، "الفرسان الثلاثة"، "الفريق 1"، "الحلم 1"، "المتعاونون" و"الفريق أ". وظل هذا السلوك التأمري قائماً لفترة تزيد عن ستة سنوات حتى اكتشفت السلطات التنظيمية ما تقوم به هذه البنوك الكبرى. وتعتبر فضيحة التلاعب بالأسعار المثبتة هي الأضخم في تاريخ سوق الفوركس، كما أطاحت بالمقولة القديمة التي تدعي أن سوق العملات هي أخر مكان يمكن أن يتم فيه التلاعب بالأسعار.

تلاعب شركات الوساطة

يضع المتداول الفردي أوامره عبر شركة الوساطة على أساس الاعتقاد بأن هذا الوسيط، والذي يلعب هنا دور صانع السوق، سيقدم له أسعار تنافسية للشراء والبيع. تقوم شركات الوساطة الاحتيالية بتوسيع فروق الأسعار (السبريد) المقدمة لمتداوليها مع اصطناع بعض القفزات السعرية الوهمية بغرض إغلاق صفقات العملاء على خسائر وبالتالي تسريع وتيرة استنفاذ رؤوس أموالهم ودفعهم للإيداع مجدداً. تبدو هذه المؤامرة في نظر المتداول، والذي يعتمد بشكل كامل على الأسعار المقدمة من وسيطه، وكأنها مؤامرة يقوم بها اللاعبين الكبار في سوق الفوركس للتلاعب بالأسعار. صحيح أنه لا يمكن استبعاد الفرضية الأخيرة في تفسير كثير من التحركات السعرية غير المنطقية، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن وسيط التجزئة يمكنه بكل بساطة التلاعب في عروض الأسعار المقدمة لعملائه.

يلجأ أيضاً وسطاء الفوركس المحتالون إلى استخدام ما يسمى بطريقة ضرب مستويات الوقف كأحد أبرز أشكال التلاعب. وبموجب هذه الطريقة، يقوم الوسيط بتعديل إعدادات برنامج التداول بحيث يخلق قفزات سعرية بالقرب من مستويات الدعم والمقاومة الرئيسية بصرف النظر عن السلوك الفعلي للسعر في السوق. وتستند هذه الطريقة الاحتيالية لإحدى الممارسات الشائعة للمتداولين والتي تنطوي على وضع أوامر وقف الخسارة أعلى أو أسفل خطوط الدعم أو المقاومة، وبالتالي قد يجد المتداول أن صفقته قد أغلقت بسبب ما يعتقد أنه حركة طبيعية في السوق عند هذه المستويات الفنية الهامة، رغم أن الواقع الفعلي لا يقتضي إغلاق صفقته وخسارة أمواله. تنطلي هذه الحيلة للأسف على كثير من المتداولين محدودي الخبرة والذين لا يمتلكون القدرة على تمييز التحركات السعرية الكاذبة من خلال مقارنتها مع ما يجري على منصات أخرى.

تلاعب البنوك المركزية

يعكس سعر صرف العملة الوضع الاقتصادي في البلد المعني. وبشكل عام، يفضل المستثمرون شراء العملات التي تتمتع بأسعار صرف قوية ومستقرة. برغم ذلك، قد يحدث في بعض الحالات أن تصبح قيمة العملة أقوى أو أضعف بكثير من تقديرات البنك المركزي لسعر الصرف العادل أو المناسب لتنفيذ سياسته النقدية. تؤثر أسعار الصرف القوية أيضاً بالسلب على صادرات البلد في الوقت الذي تزيد من جاذبية الواردات، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة عجز الميزان التجاري. وبالمثل، فإن تدهور قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة تكلفة السلع المستوردة والتي ربما تتضمن بعض المواد الخام الضرورية التي تستخدم كمدخلات في الإنتاج، الأمر الذي يلحق الضرر بالاقتصاد الوطني. هذا الوضع أو ذاك قد يدفع البنك المركزي إلى التدخل في أسواق الفوركس للوصول بسعر العملة إلى المستوى المطلوب، وذلك باستخدام ثلاثة طرق رئيسية. إذا كان الانحراف في سعر الصرف طفيفاً، فقد يلجأ مسئولي البنك المركزي إلى إصدار تصريحات تتسم بالقوة بحيث تغير من توجهات السوق وتدفعها إلى المسار المطلوب. إذا فشلت هذه السياسة، تلجأ البنوك المركزية عادةً إلى رفع أو خفض سعر الفائدة.

تزداد جاذبية العملة بالتوازي مع زيادة سعر الفائدة، والعكس صحيح. وبالتالي فإن التلويح برفع أسعار الفائدة يؤدي إلى تحسن سعر الصرف بشكل فوري. على العكس من ذلك، ينخفض سعر العملة عندما يقرر البنك المركزي قطع أسعار الفائدة أو التلويح بذلك. إذا فشلت الطريقتين السابقتين، يلجأ البنك المركزي إلى التدخل بشكل فعلي في أسواق العملات لدفع سعر الصرف نحو المستوى المطلوب. ولكن يجب ملاحظة أن استخدام هذه الاستراتيجية يتطلب نوع من الاستقرار الاقتصادي بشكل يضمن توفر ملاءة مالية كافية لتغيير مستويات الطلب والعرض الفعلية في السوق.

يعتبر البنك المركزي السويسري مثال كلاسيكي على هذه الحالة، حيث نجح في الإبقاء على سعر صرف الفرنك السويسري أمام اليورو عند 1.20 أو أقل لفترة تزيد عن ثلاثة سنوات، قبل أن ينهي العمل بهذه السياسة في 2015. ولجأ المركزي السويسري إلى هذه السياسة بعد فشله في إضعاف سعر الصرف من خلال تطبيق أسعار الفائدة السلبية، وهو ما دفعه للتدخل بشكل فعلي في أسواق الصرف لإيقاف المكاسب القياسية التي سجلتها العملة السويسرية وأدت إلى الإضرار بالاقتصاد المحلي. يجب على المتداول الفردي في مثل هذه الحالات تجنب التداول في عكس الاتجاه المستهدف من قبل البنك المركزي لأن المطاف سينتهي به عند تحقيق خسائر كبيرة. أما في حالة الاقتصادات الضعيفة، فإن البنوك المركزية لا تتمكن عادةً من التأثير على أسعار الصرف بالطريقة المطلوبة بسبب افتقارها للقوة الشرائية الكافية لتحريك الأسعار.

الحلول

في مسعى لمنع تكرار عملية التلاعب بأسعار تثبيت العملات، لجأت السلطات التنظيمية لزيادة المساحة الزمنية لتحديد الأسعار المرجعية إلى خمسة دقائق، الأمر الذي صعب كثيراً من فرص التلاعب بالسوق حتى على البنوك الكبرى. أيضاً على الصعيد الإقليمي، لجأت البنوك المركزية في بعض البلدان إلى استخدام منهجية مختلفة للوصول إلى الأسعار المرجعية لعملتها المحلية. على سبيل المثال، يحدد البنك المركزي الهندي سعر صرف الدولار مقابل الروبية على أساس مجموعة مختارة من البنوك المشاركة وباستخدام صفقات يتم اختيارها عشوائياً خلال فترة خمسة دقائق تتراوح بين الساعة 11:30 و12:30 بالتوقيت المحلي في كل يوم من أيام الأسبوع (باستثناء العطلات الرسمية في مومباي). بدأ تطبيق النظام الجديد اعتباراً من 2014. قامت الصين أيضاً بتغيير طريقة احتساب سعر صرف اليوان. ساهمت هذه الجهود إلى حد كبير في القضاء على التلاعب بالأسعار المرجعية حيث أصبحت مخاطرها كبيرة بالنسبة للبنوك التي تحاول التورط في مثل هذه الممارسات. ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن التلاعب بأسعار الفوركس قد تم بطريقة تآمرية تعتمد على مشاركة هذه البنوك لسجلات أوامر العملاء مع بعضها البعض. أما إذا تم تنفيذ أمر ضخم عن طريق أحد المتداولين الأفراد أو المؤسسات الكبرى فإن الخطة ستفشل سريعاً لأن هذه الصفقة سوف تحد من تأثير الأوامر التي تضعها هذه البنوك. وبالتالي فإن زيادة النافذة الزمنية لاحتساب أسعار التثبيت قد جعل من محاولة البنوك التأثير على سعر الصرف باستخدام أوامر وهمية مجازفة كبرى تتجاوز مخاطرها أي مكاسب محتملة.

يجب أيضاً أن نتذكر أن البنوك أثناء فترة التلاعب بأسعار الصرف لم تنجح سوى في تغيير سعر صرف أزواج العملات بنحو 30 نقطة فقط. وبالتالي فإن المتداولين الأفراد لم يخسروا كثيراً بسبب عمليات التلاعب المشار إليها. يختلف الأمر بطبيعة الحال مع البنوك الكبرى والتي تصل قيمة تعاملاتها إلى ملايين من الدولارات يومياً، وبالتالي فإن هذا الفارق الطفيف في الأسعار المرجعية كان كافياً لتحقيق أرباح ضخمة.

يمكن للمتداول تجنب عمليات التلاعب التي تقوم بها شركات الوساطة من خلال التدقيق في خلفية الوسيط الذي ينوي فتح حساب تداول معه. وعلاوةً على ذلك، يمكن للمتداول مراقبة محاولات وسيط الفوركس لضرب مستويات الوقف من خلال استخدام عدة حسابات تجريبية للمقارنة بين أسعار الصرف المعروضة أثناء ساعات تذبذب الأسواق أو عند صدور أخبار هامة. ستساعد هذه المقارنة في تقييم مدى نزاهة وسيط الفوركس فضلاً عن الإلمام بنوعية معدلات السبريد المقدمة. يمكن أيضاً للمتداول الحكم على مدى كفاءة الأسعار المقدمة من شركة الوساطة عن طريق مقارنتها مع خلاصات الأسعار التي تقدمها بعض الكيانات الكبرى مثل رويترز وبلومبرج.

خاتمة

لا يزال بمقدور البنوك الكبرى التلاعب في أسواق العملات الأجنبية، ولكن لن يتجاوز التأثير على أسعار الصرف في أحسن الأحوال 20 إلى 30 نقطة. لا ننسى أيضاً أن هيئات التنظيم العالمية قد أغلقت معظم الثغرات التي ساعدت هذه البنوك في السابق على ارتكاب هذه المخالفات. كما أن الغرامات الكبرى التي فرضتها الهيئات الرقابية قد جعلت البنوك الكبرى تدرك مدى فداحة الثمن الذي ستدفعه إذا عادت إلى مثل هذه الممارسات. بعبارة أخرى، لا يوجد ما يستدعي قلق المتداولين الأفراد من المشاركة في سوق الفوركس، ولكنهم سيظلوا مطالبين بالتدقيق في اختيار وسيط الفوركس المناسب لتجنب هؤلاء الذين يتلاعبون بالأسعار. هؤلاء الوسطاء المحتالون هم حقاً من يكلفون المستثمر خسائر فادحة دون أي مبررات منطقية.